ما الذي يجمع بين جورج دبليو بوش وبين مسجون أمريكي من أصل إفريقي محكوم عليه بالموت في إنديانا؟ الطبقة السياسية الفرنسية بأكملها (من أقصى اليمين إلى الاتحاد الأناركي)، ونجوم هوليوود، والمثقفين العرب المناهضين للاستعمار… كلهم ادعوا ملكية تراث ألبير كامو.
“كامو” شخصية ساحرة في حد ذاتها.. ترك وراءه متنًا مكتوبًا مهمًّا، وقصة حياته تلقي الضوء على فترة فاصلة في التاريخ الفرنسي والجزائري، ولكن حالة الولع به -والقراءات المتناقضة ظاهريًّا لأعماله- جعلته رجلاً من رجال عصرنا أيضًا.

كامو (1913-1960) كان روائيًا فرنسيًّا، وفيلسوفًا، وصحفيًّا، وكاتب مقالة، وكاتبًا مسرحيًّا، ولد في الجزائر الفرنسية لعائلة من المستوطنين البيض (يدعون Pieds-Noirs الأرجل السوداء بالفرنسية). رغم أنه أتى من خلفية اجتماعية متواضعة، برز كامو كأهم شخصية أدبية في جيله، وحاز جائزة نوبل في الأدب عام 1957، قبل 3 سنوات من وفاته في حادثة سيارة.
كان مشغولاً بالسياسة من سن صغيرة.. التحق بالحزب الشيوعي الفرنسي عام 1935، رغم أنه ترك الحزب بعد سنتين.. باقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبح نشطًا في المقاومة الثقافية للاحتلال الألماني لفرنسا.
بدأ بالاستمتاع بصداقة قوية مع الفيلسوف والكاتب جان بول سارتر، الذي قابله أول مرة في باريس عام 1943، ولكن علاقتهما انتهت بخلاف علني وشديد الجفاء حول أسئلة عن الماركسية والاستعمار بعدما نشر كامو مقاله “الثائر”.

حرب الاستقلال الجزائرية بين 1954 و1962 ورَّطت كامو في صراع شخصي وسياسي عميق. انسحب من الحياة العامة بالتدريج، لكنه استمر في الكتابة، وكان يعمل على روايته الأخيرة حين توفي (سيرة ذاتية نشرت بعد وفاته باسم الرجل الأخير).
اضغط.. على كل محور يمين الصفحة للقراءة
البونير والجبهة الشعبية

مع أن أصول هذا المقال الشهير هي جميع الأشياء التي يحاول ماكرون تدميرها.. في عبارة أخرى، مهارة شخصية مثل ماكرون تكمن في كبت المكاسب الاجتماعية عسيرة المنال التي كونت البيئة المناسبة للمقال نفسه الذي يمتدحه.
الإضرابات واحتلال المصانع في مايو/ أيار- يونيو/ حزيران 1936 حوّلت بشدة حياة كثير من العمال الفرنسيين. المفاوضات بين المضربين، ورؤساء العمل، وحكومة الجبهة الشعبية أدت إلى زيادات ضخمة في الأجور.. والأهم، دشن الاتفاق طريقة جديدة للحياة، بساعات عمل أقل (من 48 إلى 40) وعطلة لمدة أسبوعين مدفوعة الأجر مضمونة كل عام.
كل شيء تغير نتيجة لذلك، اكتشف الشعب الفرنسي الريف، والشواطئ، والجبال، غالبًا على سرج الدراجة.. بعد ذلك بقليل، في “أعراس في تيبازه”، التي بدأها في 1937، طوّر الطالب الشاب وعامل المكتب ألبير كامو نظريته في البونير Bonheur.
بالنسبة إلى كامو، كانت تلك كلمة أكبر من السعادة: إنها تشير إلى اللحظات العابرة –يوم واحد، لا أكثر، كما حدد– من الاتصال المكثف مع الطبيعة.
المفهوم الكاموي للبونير عبّر عن الواقع الجديد الناتج عن الانقلاب الاجتماعي العميق وترجمه إلى أدب.. يوم المؤلف تحت الشمس في قرية صغيرة في تيبازه، التي تصوره كتجربة مؤقتة، هي العطلات ونهايات الأسبوع كما نعرفها، منظومة في أدب للمرة الأولى.
مؤشر أجور استعماري
مع ذلك، التزام كامو بشأن المسائل الاجتماعية كان تابعًا في النهاية لأيدولوجيا أخرى.. في مقال من أكتوبر/ تشرين الأول 1938، “المضاربة ضد القوانين الاجتماعية”، كامو كصحفي وكاتب عمود في الجير ريببليكان Alger Républicain، كان يراقب بعين يقظة الإنجازات الملموسة لـمايو/ أيار – يونيو/ حزيران 1936.. كان حقًا ساخطًا قليلاً بسبب حقيقة أن رفع الأسعار قد محى زيادات الأجور، واقترح أن تكون الأجور مرتبطة بمؤشر تكاليف المعيشة.
لفت كامو النظر أيضًا إلى التفاوت بين زيادة أجور لمن أسماهم “العمال الأهليين” (من نطلق عليهم الجزائريين) وبين “العمال الأوروبيين” (من نطلق عليهم مستوطنين).. لاحظ كامو أن أجور المستوطنين زادت 20%، أما الجزائريون فزادت أجورهم 60%.

مع ذلك، لم يثر كامو هذه النقطة من أجل أن الاستفهام عن الظلم الفاضح في تفاوت الأجور بين المجموعتين..
بعد الإضرابات، جنى الجزائريون 2.30 فرانك في الساعة، في حين يجني المستوطنون 7.20 فرانك. لقد افترض صحة الأمر.. ما صدم كامو هو أن المستوطنين لم يحصلوا على زيادة 60% كالجزائريين.. أراد الحفاظ على التفاوت بين المستعمَر والمستعمِر.
دافع كامو عن إنجازات إضرابات 1936 والنظام الاستعماري، لعب دورًا مزدوجًا، مترجمًا الواقع الجديد إلى فن، وهو يصادق ضمنًا على النظام الاستعماري القديم.
قديس نافع
غزو الجزائر
ولد كامو في 1913 في الجزائر، البلد الذي قد كان تحت الحكم الفرنسي منذ 1830. تم الاستعمار الفرنسي إلى حد كبير على مرحلتين: واحدة كانت الغزو، الذي استمر حتى 1870، التي ارتكبت فيها فرنسا فظائع على نطاق هائل.. محو قرى بأكملها بإقامة مذابح لقاطنيها، وتدمير المحاصيل، وقتل الماشية.. كانت تلك ممارسات روتينية تقرها الدولة الفرنسية وكل الشخصيات المشهورة تقريبًا (تشمل ألكسي دي توكفيل الذي يعاد النظر فيه الآن).

في 1870، بدأ المستوطنون المدنيون في تولي مسئؤلية الجزائر الفرنسية.. حكموا عن طريق مجموعة من القوانين العنصرية المعروفة باسم “قانون الأهالي”، يستعبد الجزائريين حقيقةً ويحرمهم من أي حماية وأي حقوق قانونية من الممنوحة للمستوطنين الأوروبيين.. بمواجهتها بثورات متقطعة ولكن قوية، ثم جاءت الموافقة على إصلاحات بسيطة ومحدودة للغاية كان من شأنها منح حقوق محدودة لفئة مميزة من الجزائريين، من أجل فصل عامة الجزائريين عن نخبتهم.. أيد كامو منذ سن صغيرة تلك الإصلاحات، التجسيد الأخير لهذا كان مشروع قانون بلوم- فيوليت 1936، سُمي باسم رئيس وزراء الجبهة الشعبية ليون بلوم والوالي العام السابق للجزائر، موريس فيوليت.

مشروعهم كان من شأنه تقديم منح بعض الحقوق لأقلية صغيرة من الجزائريين.. مصالي حاج، الأب المؤسس للقومية الجزائرية، رفض المشروع في ذلك الوقت لما كان عليه: خطوة تقليدية من خطوات المخططات الاستعمارية، الذي كان من شأنه إنشاء نخبة جزائرية متحالفة مع وممتنة للحكام الاستعماريين.
مع ذلك، في إبريل/ نيسان 1937، في الثانية والعشرين من عمره، شارك كامو في تأليف إعلان لدعم هذا المشروع.. في هذا الإعلان، يمكن أن يدرك المرء حجته: منح المزيد من الحقوق للنخبة الجزائرية يعني ضمهم إلى صفه: “(…) بعيدًا عن الإضرار بالمصالح الفرنسية، تلك المشاريع تخدمهم بأحدث الطرائق، ما سيجعل العرب يرون الوجه الإنساني الذي يجب لفرنسا أن تظهره”.
تلك المحاولة المتواضعة لإصلاح النظام الاستعماري انتهت بالفشل.. قوبل مشروع قانون بلوم-فيوليت بتهديدات باستقالة كل حاكم من حكام البلدات والمدن الجزائرية، نتيجة لذلك، لم يُعتَبَر به حتى، بعدها بقليل، ترك كامو العمل السياسي المباشر.

الثرثرة الإنسانوية
الحياة دون معنى
كنتيجة لمقالاته، أمل كامو أن يرى وعيًا متزايدًا بشأن الحاجة إلى إصلاحات بين المستوطنين وبين مجالس حكمهم.. العكس هو الذي حدث.. منعت السلطات الاستعمارية نشر الصحيفة التي ينشرها صديقه فيما بعد ومرشده باسكال بيا، مقالات كامو كانت أحد أسباب المنع.. هذه المحاولة للتأثير في الرأي الاستعماري كانت انتكاسة لآماله في الإصلاح.
عجزه عن التأثير في الدوائر الاستعمارية أدى إلى استفاقة كامو من الوهم.. كانت مرتبطة أيضًا بانتكاسات أخرى، بعضها كان عاطفيًّا، كانهيار زواجه الأول عندما اكتشف أن زوجته كانت تخونه. بعضها كان مهنيًّا، ثبت أن مهنته الجامعية الطويلة كانت عبثًا، فلم يكن يصرَّح له بالتدريس بواسطة الدولة الفرنسية بعدما أنهى دراساته بسبب إصابته بالسل.
من تجارب الاستفاقة هذه، هنا تظهر لا مبالاة مطلقة –السمة المميزة لميرسولت، الشخصية الرئيسة في أشهر روايات كامو، الغريب– وتصور العالم عديم المعنى، عالمًا خاليًا من المنطق، من الأخلاق.. قصارى القول، عالم عبثي.
هناك لا معقولان، طبقًا لكامو.. الأول كان ملاحظة أن كلا الحياة والموت عديم المعنى.. الثاني كان أمرًا يجب أن يعيش المرء كـ”رجل عبثي،” في تقبل تام لقصور الذكاء الإنساني عن تقديم تفسير أو معنى للعالم.

لذلك امتدح كامو نبذ المعرفة، والتنوير، والتاريخ، ما سمح له أن يدير ظهره إلى المشكلات –التي لا حل لها بالنسبة إليه– المطروحة بسبب الاحتلال، أمل، من ثم، أن يركز على العلاقة الجمالية مع الجزائر.. لجأ فقط إلى السياسيين عندما اضطر إلى ذلك بسبب الأحداث التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
بلاغة التحرير
في إفريقيا، كما في كل الأقاليم الأخرى حيث يعيش الناس تحت لوائنا، لن يكون هناك تقدم يستحق الذكر إذا لم يستطع الناس في وطنهم أن ينهضوا شيئًا فشيئًا حتى المرحلة التي يكونون فيها قادرين على المشاركة في إدارة شؤونهم الخاصة في وطنهم.. إنه واجب فرنسا أن يكون الأمر هكذا.
متشجعةً ببلاغة فرنسا التحريرية –وهزائمها العسكرية في أوروبا– خرجت شعوب مستعمَرة إلى الشوارع مطالبة بحقها في السيادة والتحرر.. في يوم انتصار أوروبا (عيد النصر) في مايو/ أيار 1945، في مدينتي سطيف وقالمة، تظاهر المئات من الجزائريين –بينهم العديد من المحاربين السابقين في الجيش الفرنسي– تحت الراية الجزائرية.. تبعتها أعمال شغب، وفقدت السلطات الفرنسية السيطرة، ومات بعض ضباط الشرطة ومستوطنون.
الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول
كان القمع قاسيًا؛ حدثت بعد ذلك العديد من المذابح للمواطنين العرب بواسطة الجيش الفرنسي، والقوات الجوية، والشرطة، والميلشيات الاستيطانية، التي تضمنت إلقاء واحد وأربعين طنًّا من المتفجرات. كانت هذه المذابح –وما زالت– غير مدونة إلى حد كبير. حتى بالتقدير المعتدل، كان هناك عشرات الآلاف من الضحايا الجزائريين.
كان هذا جرحًا غير ملتئم بالنسبة إلى الجزائريين: في الواقع، كان ذلك مولد حربهم للاستقلال. رغم أعاقته الثورة لنحو 10 سنوات، فإنه أيضًا دعّم بين القوميين الجزائريين التيقن بأن الانفصال التام عن فرنسا هو الطريق الوحيد إلى التقدم.

“قوة عربية”
في إثر الحرب العالمية الثانية، جادل كامو حول أنه من المهم أن تظل فرنسا “قوة عربية” أكثر من أي وقت آخر. بالنسبة إليه، كان هذا الطريق الوحيد لبلده ليحافظ على مركزه الرفيع (الاستعماري) في العالم، لتستمر “معاملته باحترام”.. إسهامه في هذا الكفاح في حدود مملكة الأفكار.
في سلسلة من المقالات المنشورة بعد رحلة إلى الجزائر في إبريل/ نيسان-مايو/ أيار 1945، وضّح كامو لقرائه أن فرنسا عليها أن تضطلع بـ”غزو ثانٍ”.. أراد أن يشن حربًا ويفوز بمعركة الفكر السليم –برنامج غرامشي غالبًا– مع الشعب الجزائري، لإقناعهم بأن الاستعمار بإمكانه الانسجام مع العدالة.. أراد “اختراع صيغ جديدة” و”تجديد شباب أساليبنا”.
هذا الاتجاه في الجدل كان معروضًا في جريدة كومبا Combatمايو-يونيو 1945، في الوقت الذي حطمت فيه الأحداث على أرض الواقع آماله.. ربما لشعوره بذلك، كتب كامو أن الغزو الثاني “سيكون أقل سهولة من الأول”، ولكن مقالاته أيضًا تضمنت نداء لاستيطان استعماري متجدد: في مقال نشر في 23 مايو/ أيار 1945، بعنوان “إنها العدالة التي ستحمي الجزائر من الكراهية”، كتب الآتي:
لذلك هناك حاجة إلى رجال جدد.. في الوقت الذي يبحث فيه الكثير من الشباب الفرنسي عن طريقة وسبب للحياة، قد نجد أن بعض الآلاف منهم قد أدركوا أن هناك أرضًا تنتظرهم، حيث سيكون بإمكانهم خدمة كل من الإنسان وبلدهم.
مذابحهم ومذابحنا
الخزي والهياج
انسحب كامو تقريبًا من التعليق العلني على مسألة الاستعمار بعد نشر سلسلة من المقالات في 1946 بعنوان “ليسوا ضحايا ولا جلادين”، التي ساوى فيها بين عنف المستعمِر وبين عنف المستعمَر التحرري.. نشر المؤلف هذه المقالات في غمرة حركة عالمية للتحرر من الاستعمار.. التكافؤ الزائف الذي صوره تسبب في إشارة منتقديه له بسخرية بـ”الروح الجميلة”.. لا يزال كامو محافظًا على تصريحه بالحياد علانيةً.
مع ذلك، تأثره الشخصي بعد هزيمة فرنسا في “ديان بيان فو” في 1954 كان ظاهرًا.. في مذكراته، قارن كامو بين رد فعله على فقدان فرنسا للمستعمرات الهند- صينية بمشاعره عندما احتل النازيون فرنسا:
سقوط ديان بيان فو، كما في 1940، شعور يجمع بين الخزي والهياج.. في مساء يوم المذبحة، السجلات فارغة.. سياسيو جناح اليمين وضعوا الناس في موقف لا يمكن تبريره وفي نفس الوقت، طعنهم اليسار من الخلف.
يجب أن يكون من الواضح لنا الآن أن كامو لم يكن منهاضًا للاستعمار ولكنه كان بالأحرى مدافعًا أريبًا عن النظام الاستعماري، الذي وضع أمامه رؤية للتسوية الإنسانوية للدفاع عن الوجود الفرنسي في الجزائر وغيرها.
إذًا لمَ وُضِع كامو في دور المناهض المتقد للاستعمار اليوم بواسطة كل من النقاد والسياسيين؟ بسبب تكرار رواية ماضي كامو هذا، التهوين من شأن تناقضاته، ساعد على توطيد صورة مثالية لتراث فرنسا الاستعمارية.
استهلال ماكرون

الخصلة الشافعة لفرنسا
في أغسطس/ آب 2020.. الإذاعة الفرنسية التي تديرها الحكومة “فرانس إنفو”، وضعت الأخبار الخاصة بوحشية الاستعمار التي حدثت منذ 37 سنة مضت في الصدارة.. في مارس/ آذار 1947، قام الجيش الفرنسي بالعديد من المذابح في مدغشقر، أودت بحياة عشرات الآلاف، عندما حاول الملغاشيون الدفاع عن استقلالهم، منطلقين من وعود شارل ديجول.. كانت الصحافة المتروبوليتانية نادرًا ما تشير إلى ما كان يحدث في ذلك الوقت، وصار ذلك مهملاً في فرنسا التي كانت لا تزال تترنح من الاحتلال.
تلك الأحداث لم تشكل جزءًا من تاريخ فرنسا الرسمي، حتى هذا الصيف.. المذابح نفسها كانت من جانب واحد، تشبه ما حدث تقريبًا في سطيف وقالمة.. في الواقع، كان الوضع أحيانًا أسوأ في مدغشقر منه في الجزائر: قُتِل عدد أكبر من الملغاشيين، وعُذِّب كثيرون، والجميع تقريبًا تعرض للعمالة الإجبارية فيما قبل أربعينات القرن العشرين حتى الانتفاضة.. قُتِل القليل جدًّا من المستوطنين.
تعرف الجمهور الفرنسي على تلك الحقبة البشعة عبر الإذاعة العامة في 2020، لكن جزءًا من أجزاء البرنامج ومقالاً مصاحبًا له على الإنترنت سلطا الضوء على الأمل والكرم، بالزج بألبير كامو، استشهدت “فرانس إنفو” بكامو في قوله إن فرنسا أبلت مدغشقر بالأشياء نفسها التي أدانها الفرنسيون من ألمانيا.
عبارات كامو الفعلية وغير المتجزئة عللت مذبحة 1947.. كانت مختلفة تمامًا في الواقع.. أعلن أولاً أن المعلومات الموثوقة الوحيدة (لا المشكوك فيها) التي لديه هي بعض التقارير عن فظائع ارتكبها المتمردون و”مظاهر محددة من القمع”. مرة أخرى، كما في المقال الخاص بسطيف وقالمة، فرق كامو بين عنف الشعب المحتل (فظائع) وبين عنف المستوطنين (القمع): “ليس برأي، أنا بالأحرى أشعر بمقت تجاه كلتا الطريقتين”.
ثم ردد كامو شائعات غير مثبتة عن أن الثوار عذبوا المستوطنين الفرنسيين –العكس كان بالعكس– وبادر بعمل المقارنة الآتية:
الجبن والإجرامية عند أعدائنا لا تبيح لنا أن نصبح نحن أنفسنا جبناء ومجرمين.. لم أسمع أننا أقمنا أفرانًا للانتقام لأنفسنا من النازيين.. حتى تبين العكس، إن الأفضل في اعتقادي كان تقديمهم لمحاكمنا.. قوة القانون عدالة راسخة وأمينة.. وإنه هو القانون الذي ينبغي أن يمثل فرنسا.
الدفاع الإشكالي عن العدالة الاستعمارية ليس جزءًا من مختارات “فرانس إنفو” لاقتباسات كامو في قصصهم.. كامو على الأقل، إن لم تكن فرنسا نفسها، يجب أن يحتجب عن النقد.. لخصلة أمته الشافعة.
نحن نعلم الآن المفارقة في الأمر كله: استخدم كامو لتغطية واحدة من أكثر التناقضات فداحة في الجمهورية الفرنسية –البلاغة الثورية المتعالية (الحرية، المساوة، الإخاء) (liberté, égalité, fraternité) تنافت مع الاستغلال الاستعماري القاسي– لكن هذا التناقض مزقه معظم حياته، ولم يستطع أبدًا أن يتعامل معه بالكامل.
ليست أرض أحد

سارتر وكامو
قارن تلك المواقف بمواقف جان بول سارتر، الذي دعم دون تحول استقلال الشعب الجزائري وفعل كل ما في وسعه لدعم هذه القضية.. حث فرق الجنود الفرنسية على الفرار من الجندية عوضًا عن محاربة الجزائريين، وأعلن أنه تمنى هزيمة فرنسا.. كتب سارتر العديد من المقدمات لكتب ألفها كتاب مناهضون للاستعمار، لأن هذا كان الطريق الوحيد تقريبًا للإفلات من قبضة الرقابة لينشر.
لم يبال سارتر كثيرًا بسلامته الشخصية.. هو نفسه تعرض للاعتقال وكان هدفًا لمحاولات الاغتيال: التنظيم الإرهابي المناصر للاستعمار OAS فجر شقته مرتين. كما رأينا، عبّر كامو علانية عن خوفه من أن أمه قد تموت على يد جبهة التحرير الوطني، لكن أم سارتر هي التي أصيبت حقيقةً بجروح بواسطة التنظيم الإرهابي المناصر للاستعمار خلال إحدى محاولات قتله.
اليوم، التقدير اللائق بسارتر والتزاماته سيحتاج إلى نظرة أمينة على جرائم فرنسا في الهند الصينية، ومدغشقر، والجزائر، وفي غيرها من الأماكن، وبالتالي على الجرائم الممنهجة لجميع القوي الإمبريالية. تقدير كهذا ينبغي أن يأخذ في حسابه أيضًا المقالات الناقدة القاسية للاستعمار والاستعمار الحديث بوصفها تجسيدًا مباشرًا لمصالح الرأسمالي. قراءة التاريخ الذي كان لعنة كامو طول حياته. (حتى خلال الفترة القصيرة التي كان فيها عضوًا في الحزب الشيوعي في عقده الثالث من العمر، كتب كامو أن صراع الطبقات “وهم”).
الآراء التقليدية والثنائية بشأن كون سارتر داعمًا للاستبداد وأن كامو دعم الحرية، هو نابع بلا شك من الموقف المعادي للاستعمار للأول والمعادي للشيوعية للثاني، بعيدًا عن أي كشف موضوعي عن سجلاتهم. باختصار، مكانة الرجلين تعكس الخطاب السائد في المجتمعات الغربية.
اليوم، ساتر وكامو لا يفترقان باعتبارهما نقيضين، لأنهما يمثلان قطبين متضادين في بعض النقاشات الأكثر جوهرية عن العنصرية والظلم الاجتماعي في كل صوره، وبالتحديد مشكلة عنف الدولة الممنهج والعنف الشعبي المضاد. إنه وقت ممتاز لنا لإعادة النظر في السبب في تلقيهما تلك المعاملة المتفاوتة، ولصالح أي غرض سياسي.