إنْ كنت واحدا من متابعي عالم السياسة والاقتصاد، فإن اسمي أمريكا والصين يمران أمامك يوميا لأن الحرب بين أكبر اقتصادين في العالم حدث جلل لا يمكن تجاهله، وإن كنت غير متابعٍ، فيكفي أن تكون أحد حاملي أجهزة “هواوي” الصينية، لتجد نفسك عالقا في قلب هذه الحرب.
أما في عالم الرياضة، فإن رؤية اسمي أمريكا والصين معاً يبدو أمراً نادراً، خاصةً في الرياضات الأكثر شعبية. ورغم ذلك مع كل أولمبياد، باعتبارها الحدث الرياضي الأكبر كل أربع سنوات، تفرض الصين نفسها منافساً شرساً لأمريكا وروسيا.
وبقدر ما يبدو الصراع الرياضي بعيداً عن نظيره الاقتصادي، إلا أن كرة القدم قررت الدمج بينهما، لتكتب فصلاً جديداً في الصراع الأمريكي-الصيني.
تحوّل غامض ومفاجئ

قبل 5 أعوام قررت الصين فرض اسمها على خارطة كرة القدم عبر أسرع الطرق، من خلال سوق الانتقالات. وكانت البداية في فبراير من عام 2016، عندما نجح نادي “جيانغسو سونينغ” الصيني في خطف الموهبة البرازيلية “أليكس تيكسيرا” من ليفربول، في صفقة وصلت تكلفتها إلى 50 مليون يورو. ثم لحق به عدد من اللاعبين الكبار أمثال: أوسكار وراميريز (تشيلسي)، هالك (بورتو)، أكسيل فيتسل (زينيت سان بطرسبرج)، كارلوس تيفيز (بوكا جونيورز)، جاكسون مارتينيز (أتلتيكو مدريد).
ذلك التحول كان نتيجة إطلاق العنان لملّاك الأندية الصينية الأثرياء، الذين شرعوا في تنفيذ توجيهات حكومتهم، لإدراج كرة القدم على أجندة الاستثمارات الصينية.
ما بدا للمتابعين آنذاك هو أن الصينيين “جن جنونهم” ليدفعوا أموالاً أكثر من اللازم سواء في عمليات الشراء أو رواتب اللاعبين. ولتدرك كم كانوا معذورين في حكمهم، يكفي أن تعلم أن الدولي الإيطالي السابق “جرازيانو بيلي” كان يتقاضى في نادي “شاندونغ ليونينغ” 290 ألف باوند/ 337 ألف يورو أسبوعيًا، أعلى من راتب محمد صلاح الحالي مع ليفربول 200 ألف باوند/ 232 ألف يورو.
لكن ما بدا كجنون كان واجهة لخطة طويلة الأجل، يتطلع من خلالها الرئيس الصيني “شي جين بينغ” لتوسيع اقتصاد بلاده لما هو أبعد من القطاع الصناعي، ليشمل الرياضة والترفيه أيضاً، إلى جانب الحلم بتنظيم كأس العالم في المستقبل، وتطوير المنتخب الصيني ورفع حظوظه في المنافسة.
وعليه، كانت عمليات الشراء الباهظة للاعبين الأجانب تهدف لرفع مستوى الدوري المحلي، وجلب نماذج قادرة على إلهام الأطفال الصغار لممارسة اللعبة، بالإضافة إلى رفع مستوى الأكاديميات، وإجبار الطلاب على ممارسة كرة القدم في المدارس منذ عام 2015، وهو ما سيترتب عليه زيادة عدد الممارسين، وبالتالي زيادة احتمالية ظهور المواهب. وبقدر ما تبدو كل تلك التحركات طموحة بل ومجنونة أيضاً، إلا أن التحرك الأهم والأكثر فاعلية كان يتم خارج حدود الصين.
خارج الوطن.. داخل الملاعب

بدأ المستثمرون الصينيون الانقضاض على الأندية الأوروبية واحداً تلو الآخر، إما عبر الاستحواذ على غالبية الأسهم أو الاكتفاء بنسبة أقل لمجرد التواجد. ثم تسارع نسق عمليات الاستحواذ عقب زيارة الرئيس الصيني لنادي مانشستر سيتي في 23 أكتوبر عام 2015، بصحبة رئيس الوزراء البريطاني “ديفيد كاميرون”. وبعد مرور شهر على تلك الزيارة، استحوذ الصينيون على 13% من أسهم مانشستر سيتي بتكلفة وصلت إلى 265 مليون باوند/ 308 ملايين يورو.
وفي غضون 18 شهراً، كان المستثمرون الصينيون يستحوذون على كل من: ميلان والإنتر وبارما في إيطاليا، إسبانيول وغرناطة في إسبانيا، أستون فيلا وولفرهامبتون وبرمنجهام سيتي ووست بروميتش ألبيون وساوثهامبتون و نورثامبتون تاون في إنجلترا، سلافيا براغ في التشيك، أوكسير وسوشو في فرنسا، بالإضافة لحصص أقل في أندية أخرى، واستثمارات في بعض الاستادات، بالإضافة إلى عقود الرعاية والبث التلفزيوني.
Sergio Aguero takes a selfie at the #MCFC training ground; two relatively important people jump in & ruin it 🙈 pic.twitter.com/Hjie30Qj84
— B/R Football (@brfootball) October 23, 2015
أنفق الصينيون قرابة الـ 2.5 مليار دولار على الأندية الأوروبية بين عامي 2014 و2017، وكان ذلك المبلغ الضخم بمثابة محاولة متأخرة للحاق بركب الدول التي سبقتهم لاستخدام كرة القدم كجزء من القوى الناعمة. وهنا، ظهرت أسباب أخرى وراء تلك الاستثمارات، أسباب لم تخطر أبداً ببال مشجعي كرة القدم.
في بريطانيا على سبيل المثال، ركزت الاستثمارات الصينية (عبر ناديي وست بروميتش وولفرهامبتون) على منطقة “ويست ميدلاندز”، التي تعد منطقة استراتيجية للغاية تربط الشمال بالجنوب، وتضم ثالث أكبر تجمع سكاني في بريطانيا بـ 2.5 مليون نسمة. موّلت الصين شبكة نقل “ويست ميدلاندز” لتطوير خط شحن بالسكك الحديدية من ساوثهامبتون (النادي المملوك للصينيين)، لتسهيل حركة البضائع الصينية.
لكن الاستثمار الصيني كان يستهدف ما هو أكبر من ذلك، مشروع شبكة السكك الحديدية المسماة بـ “High Speed 2“، والذي يعد أحد المشاريع الرائدة للحكومة البريطانية لتطوير البنية التحتية. بالصدفة – كما وصف تقرير قناة Tifo Football – يتواجد مقر شركة “كاريليون” البريطانية المسئولة عن تنفيذ المشروع في “ولفرهامبتون”.
وفي مارس 2019، حدثت مفاوضات رسمية لتولي أحد الشركات الصينية مهمة تنفيذ المشروع عوضاً عن شركة “كاريليون”، وبالصدفة أيضاً كانت تلك الشركة أحد الشركاء الرسميين لشركة “Fosun” الصينية المالكة لنادي “ولفرهامبتون”.
الانسحاب الكبير

وعلى نفس المنوال، يمكننا إعادة النظر إلى بعض التحركات الصينية الأخرى، كعقد بث البريميرليج في الصين عبر شبكة “PPTV”، والذي وصلت قيمته إلى 523 مليون باوند/ 608 ملايين يورو، نظير 3 مواسم من 2019 حتى 2022. تم إلغاء العقد في سبتمبر عام 2020، كان السبب المعلن هو تبعات جائحة كورونا، ورغبة الشبكة الصينية في التفاوض مجدداً حول مدة العقد، لكن الأسباب الحقيقة تبدو بعيدة عن كرة القدم.
ما حدث كان ضمن عدة قرارات اتخذتها الحكومة الصينية كرد فعل على حرمان أجهزة “هواوي” من شبكة “5G” داخل بريطانيا (أسوة بالولايات المتحدة الأمريكية) حسبما كشف موقع “The Athletic
ما زاد الطين بلة كان قرار رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بمنح 3 ملايين مواطن من “هونج كونج” تسهيلات من أجل دخول المملكة، من الذين يتعرضون لمضايقات من حكومة “بكين”. وبنفس الطريقة، سحب الملاك الصينيون دعمهم لنادي “سلافيا براغ” في عام 2019، على خلفية تدهور العلاقات بين الصين وجمهورية التشيك.
Premier League confirms that it has terminated its agreements for Premier League coverage in China with its rights holder partner PPTV.
Was reportedly the PL’s biggest overseas deal, worth around £490m over three-years— Dan Roan (@danroan) September 3, 2020
لكن مشهد الانسحاب الصيني من السوق الأوروبية لا يحدث كل مرة بدافع سياسي، بل يحدث أحياناً بسبب تعثر النتائج، وتارة يحدث بسبب تعثر مالي، ومؤخراً صار بسبب توجه حكومي لشطب كرة القدم من قائمة الأولويات.
وما عزز رغبة الصينيين في تخفيف الاستثمارات في مجال كرة القدم – بجانب جائحة كورونا -، هو النتائج الميؤوس منها التي حققتها المنتخبات الصينية، حيث احتل المنتخب الأول المركز 75 في تصنيف الفيفا، وفشل في الوصول لنصف نهائي كأس أمم آسيا 2019، بالإضافة لفشل المنتخب الأوليمبي بالتأهل لأولمبياد طوكيو 2021.
وعلى إثر ذلك، انسحب الصينيون من أندية ميلان وأتلتيكو مدريد وويجان ونورثامبتون تاون وأستون فيلا وبارما، فيما ينتظر ملاك ريدينج وبرمنجهام سيتي وساوثهامبتون ووست بروميتش العرض المالي المناسب للبيع، مع تدهور وضع شركة “سونينج” المالكة للإنتر وتوقع ببيع النادي قريباً، وهنا وأثناء لحظة الضعف الصيني، بدأ الأمريكان بالتحرك عكس التيار.
استثمار أمريكي في الانسحاب الصيني

لا يعتبر الاستثمار الأمريكي في الكرة الأوروبية حديث العهد مثل الاستثمار الصيني، لكن مؤخراً زادت رغبة عدد من المستثمرين الأمريكان للتحرك بصورة أكبر للسيطرة على الأندية الأوروبية رغم جائحة كورونا. فبين عامي 2019 و2020، استحوذ الأمريكان على ناديي فيورنتينا وروما بإيطاليا بالإضافة إلى نادي تولوز بفرنسا، كما اشتروا من الصينيين مباشرةً ناديي أستون فيلا بمدينة برمنجهام في بريطانيا وبارما الإيطالي.
“لقد جفت الاستثمارات الصينية فعلياً بعد أن اقترحت حكومتها استراتيجية استثمار رياضي أكثر تركيزاً على الداخل، وسيتم ملء الفراغ بشكل أساسي من قبل المستثمرين الأمريكيين الذين يقدرون قيمة كرة القدم الأوروبية”.
“مايكل بروتون” المستشار في صندوق “Acceleration Equity” للاستثمار الرياضي الأمريكي.
تعتبر صعوبة الاستثمار في السوق الأمريكية أحد أسباب زحف رأس المال الأمريكي نحو السوق الأوروبية، لأنه ليس متاحاً بنفس السهولة الموجود عليها بالصين – دون أن ننسى أن الحكومة الصينية هي التي تحدد اتجاه الاستثمار-، فأرخص نادٍ في دوري كرة السلة الأمريكي للمحترفين “NBA” تقدر قيمته بـ 1.5 مليار دولار (5 أو 6 أضعاف أرباحه)، أما في كرة القدم، فينخفض الرقم إلى 250 مليون دولار (10 أضعاف الأرباح).
لكن في أوروبا، فحساب قيمة الأندية لا يتم بنفس الطريقة، وبـ 200 مليون باوند فقط، يمكنك الحصول على أحد أندية وسط الجدول في الدوري الإنجليزي الممتاز.
The chart which follows shows American entities who already held stakes in US sports franchises, including teams from the NBA, NFL, NHL, MLB and MLS, before investing in European football. EPL has been the most appealing for investors as its broadcasting revenues are enormous pic.twitter.com/KC9EGHk0MA
— Łukasz Bączek (@Lu_Class_) November 17, 2020
لا يعني ذلك أن طريق الاستثمار في السوق الأوروبية مفروشة بالورود، وأن جميع المستثمرين الأمريكيين سينجحون أسوة بمجموعة “Fenway Sports Group” المالكة لليفربول (التي استحوذت على النادي مقابل 280 مليون باوند/325 مليون يورو، وزادت قيمته حتى وصل إلى ما يقارب 2 مليار باوند/2 مليار يورو) لكن الكثيرين صاروا يرون الفرصة بوضوح في الخارج.
ناهيك بإغراء تجارب أخرى مثل مجموعة أندية السيتي، والتي أقر المستثمر الأمريكي “جوزيف داغروسا” – الذي حاول شراء ساوثهامبتون في عام 2020 – برغبته في عمل نموذج مماثل.
وبين الطموحات العالية وأرض الواقع الصلبة، تحولت خريطة الأندية الأوروبية إلى أحد ساحات الصراع الأمريكي-الصيني، كل طرف يحاول مد نفوذه، لكن بهدوء ودون صدام مباشر، والنتيجة النهائية كانت اكتساح لمصلحة أمريكا، حيث يستحوذ مستثمروها على حصص كبيرة في حوالي خُمس الفرق الستين التي تلعب في بطولات الدوري الكبرى لكرة القدم في المملكة المتحدة وإيطاليا وفرنسا وفقًا لشركة الاستشارات KPMG .