مر الرجل بمسار خاضه أقرانه في تلك الحقبة من تجربة الاعتقال فيما قبل ثورة يوليو/ تموز 1952 وما بعدها مرتين، وعلى مستوى الدراسة فقد التحق بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، ثم حصل على العالمية مع إجازة التدريس من كلية اللغة العربية سنة 1954، ثم حصل على “الدراسة التمهيدية العليا المعادلة للماجستير في شعبة علوم القرآن والسنة من كلية أصول الدين” عام 1960.
لكن واقعة لافتة حدثت عندما قرر القرضاوي البحث عن زوجة، تكشف عن جانب كبير من طبيعة التكوينات الاجتماعية ذات الطابع الطبقي في صفوف “الإخوان” منذ وقت مبكر في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، فيقول الرجل (ص 299 الجزء الثاني): “رشح لي أحد الإخوة من المحلة ابنة قريب له من إحدى قرى مركز المحلة، كان معنا في السجن الحربي، وكان من خيرة من عرفت دينًا وخلقًا، ولكنه من أسرة أعيان ولا غرو أن جاءني الرد بالاعتذار، وأعتقد أن هذا من حقه”.
ويبرر القرضاوي واضعًا يده على مفتاح مهم في تكوين “الإخوان”، وكاشفًا عن نظرية ربما مفسرة لمسلكه فيما بعد، فيرى أن “الرجل (والد العروس) وإن كان من صفوة الإخوان من عائلة كبيرة لها تقاليدها، ومثلي لا يصلح لها، وخصوصًا مع وضعي المادي والوظيفي (…) وصحيح أن تراثنا يقول: (العالم كفء لبنت السلطان) لكن لا بد للعالم أن يكون في وضع مادي يسند ظهره”.
وبحثًا عما يسند الظهر، رفض القرضاوي الإعارة إلى ليبيا بسبب ضعف المقابل، الذي كانت تدفعه الحكومة المصرية حينها لمُعاريها، وبدأت رحلة عمله في قطر عام 1961 عندما أعير إلى معهدها الديني الثانوي، ثم تدرج مواقع أكاديمية، فأسس وترأس قسم الدراسات الإسلامية في كلية التربية كنواة لجامعة قطر 1973، ثم تولى تأسيس وعمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وظل عميدًا لها منذ 1973 حتى عام 1990.
ورغم أن الرجل غادر مصر معارًا من حكومتها لنظيرتها في قطر، فإن عداءه لسلطة الحكم في البلاد لم تغادره، ومع تنامي زعامة وشعبية جمال عبد الناصر من المحيط إلى الخليج، فإن القرضاوي وجد (في أوساط الستينات) كما يروي في الجزء الثاني من مذكراته (ص425) أن “أحد الطلاب -وكان مفتونًا بعبد الناصر- أراد أن يعلق له صورة في الفصل وقد فعل (…) فأوعزنا إلى أحدهم أن يعلق صورة للملك فيصل، وتنازع الطالبان”.
وإذا كانت بذور التكوين، التي أشار إلى بعض ملامحها بنفسه في مذكراته، عبّرت عن جانب من جوانب شخصيته، فإن محاولة فهم صورته العامة يصعب أن تكتمل إلا بمعرفة كيفية ازدهار ونمو حضور القرضاوي عبر إلحاح غير مسبوق في وسائل الإعلام القطرية، وفي وقت مبكر وتحديدًا عام 1970 ومع انطلاق إذاعة وتليفزيون قطر، بدأ الرجل في بث أول برامجه وحمل اسم “نور وهداية”، وكان يُذاع مرتين أسبوعيًّا، وعلى التليفزيون الرسمي للدوحة قدم برنامجًا آخر أسبوعيًّا، فضلاً عن برنامج ثالث رمضاني، ما خلق شعبية محلية واسعة له.
غير أن الحقيقة تقتضي القول إن الإلحاح التليفزيوني والشعبي الذي صاحب القرضاوي لم يبدأ في الدوحة فقط بل في مصر كذلك، وفي إطار تفاهمات الرئيس الراحل أنور السادات مع الإخوان لضرب شعبية التيارين “القومي الناصري” و”اليساري”، فإن القرضاوي ظهر للمرة الأولى في التليفزيون المصري عام 1974 مع الإعلامي أحمد فراج في برنامج “نور على نور”، ثم إنه في إطار التفاهمات نفسها استدعته قطر عام 1977 ليلقي خطبة عيد الأضحى في ميدان عابدين، وليتبادل هو والشيخ محمد الغزالي إلقاء الخطب طوال سنوات، وعن طبيعة تلك المرحلة يقول (ص 438 -439 الجزء الثالث): “وأذكر أن أول خطبة لي كانت في عيد الأضحى وكان الرئيس السادات في ذلك الوقت في زيارته الأولى لإسرائيل، واتفقت مع الإخوة (ألا) نتعرض لموضوع السياسية وأن نتكلم في القضايا الأساسية للأمة”.. “وبعد سنة كان السادات في منتجع كامب ديفيد.. ومضينا على سياستنا: ألا نهاجم ذلك، لأن أي هجوم سيثير الجماهير، ويشعل النار، فلا نملك إطفاءها”!